سورة المؤمنون - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (المؤمنون)


        


يقول الحق جل جلاله: {ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضُرّ}، كقحط وجدب، {لَلَجُّوا}: لتمادَوا {في طغيانهم}: إفراطهم في الكفر والعتو والإستكبار وعداوة الرسول- عليه الصلاة والسلام- والمؤمنين، {يعمهون}: يترددون عامهين عن الهدى. قال ابن عباس: لما أَسْلَمَ ثُمَامَةُ بن أَثالٍ الحنفي، ورجع إلى اليَمَامَةِ، مَنَعَ المِيرَةَ عَنْ أَهْلِ مَكَّة، وَأَخَذَهُمُ الله تعالى بالسنين حَتَّى أَكلَّوا العِلْهِزَ، جَاءَ أبو سُفْيانَ إلى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فقال له: أَنْشدُك الله والرَّحِمَ، ألسْتَ تزعمُ أَنّك بُعثْتَ رَحْمَة للعالَمين؟ قال: بَلَى، قال: قتلتَ الآباءَ بالسَّيف، والأبنَاءَ بالجوعِ، فنزلت. قال ابن جُزي: وفيه نظر؛ فإن الآية مكية باتفاق، وإنما دعا النبي صلى الله عليه وسلم على قريش بعد الهجرة، حسبما ورد في الحديث. اهـ.
قلت: والتحقيق: أن القحط نزل بهم مرتين، أحدهما قبل الهجرة، حين دعا عليهم- صلى الله عليه وسلم- بقوله: «اللهم أَعنِّي عليهم بسبع كسبع يوسف»، فأخذتهم سَنَةٌ حصدت كل شيء، حتى أكلوا الميتة والعظام، وكانوا يرون كهيئة الدخان من الجوع، فجاء أبو سفيان فقال: يا محمد، جئت تأمر بصلة الرحم، وإن قومك قد هلكوا، فادعُ الله يغيثنا، فدعا لهم.. الحديث. وفيه نزل الله تعالى: {فارتقب يَوْمَ تَأْتِى السمآء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ} [الدخان: 10] الآية، وقوله هنا: {ولو رحمناهم وكشفنا...} الآية. ومرة أخرى بالمدينة؛ حين استغاثوا به عليه السلام وهو يخطب، ولعله هو الذي ذكره ابن عباس في إسلام ثمامة، ولعل قوله: فنزلت الآية سهو؛ لأنها نزلت قبل الهجرة، إلاّ أن تكون الآية مدنية في السورة المكية، وقول ابن جزي: دعا عليهم بعد الهجرة، التحقيق، أنه دعا عليهم قبلُ وبعدُ. والله أعلم.
والمعنى: لو رحمناهم، وكشفنا ما بهم من القحط والهزال؛ برحمتنا إياهم، ووجدوا الخصب، لارتدوا إلى ما كانوا عليه من الكفر والاستكبار، ولذهب عنهم هذا الخلق والتعلق بك، وهذا كقوله تعالى في الدخان: {إِنَّكُمْ عَآئِدُونَ} [الدخان: 15]، قيل: المراد بالضر: العذاب الأخروي، فيكون كقوله: {وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ} [الأنعام: 28].
{ولقد أخذناهم بالعذاب}، وهو ما أصابهم يوم بدر من القتل والأسر، وهو قوله- تعالى- في الدخان {يَوْمَ نَبْطِشُ البطشة الكبرى} [الدخان: 16]. {فما استكانُوا لربهم} بذلك، أي: لم يخضعوا ولم يتذللوا. و {استكانوا}: افتعل من السكون، والألف زائدة، أو استفعل من الكون، أي: انتقل من كون إلى كون، كاستحال، إذا انتقل من حالٍ إلى حال؛ لأن الخاضع ينتقل من كون إلى كون {وما يتضرعون} أي: وليس من حالهم التضرع إليه تعالى، وعبَّر بالمضارع، ليدل على الاستمرار، أي: ليس شأنهم التضرع في هذه الحالة وغيرها، أو: فما استكانوا فيما مضى، وما يتضرعون فيما ينزل بهم في المستقبل، والمعنى: تالله لقد أخذناهم بالعذاب، وقتلناهم بالسيوف، وما جرى عليهم يوم بدر من قتل صناديدهم، فما وُجدت، بعد ذلك، منهم استكانة ولا تضرع.
{حتى إذا فتحنا عليهم باباً ذا عذابٍ شديد}، وهو عذاب الآخرة، {إذا هم فيه مبلسون}: متحيرون آيسون من كل خير، وهذا هو الصواب من حمل العذاب على عذاب الآخرة، بدليل وصفه بالشدة والإياس. والله تعالى أعلم.
الإشارة: أهل الغفلة والبُعد لا يرجعون إلى الله في السراء ولا في الضراء؛ لانهماكهم في الغفلة والقساوة، وأهل اليقظة يرجعون إلى الله في السراء والضراء، في السراء بالحمد والشكر، وفي الضراء بالصبر والرضا والتسليم، مع التضرع والابتهال؛ عبوديةً، والمقتصدون يرجعون إليه- تعالى- في الضراء، ويغفلون عن الشكر في السراء، والأول ظالم لنفسه، والثاني سابق، والثالث مقتصد. وبالله التوفيق.


يقول الحق جل جلاله: {وهو الذي أنشأ}: خلق {لكم السمع والأبصار}؛ لتشاهدوا بها عجائب مصنوعاته ودلائل قدرته، أو لتتوصلوا إلى شهود آياته الكونية والتنزيلية، {والأفئدة}؛ لتتفكروا بها فيما تشاهدونه منها وتعتبروا، وخصها بالذكر؛ لأنه يتعلق بها من بالمنافع ما لا يتعلق بغيرها، وقدَّم السمع؛ لأنَّ أكثر العلوم إنما تُنال به، {قليلاً ما تشكرون} أي: شكراً قليلاً غير معتد به تشكرون تلك النعم الجليلة؛ لأن العمدة في الشكر: صرف تلك القوى- التي هي في أنفسها نِعمَ باهرة- إلى ما خلقت له، وأنتم تنتحلون بها ضلالاً عظيماً. {وهو الذي ذرأكم في الأرض} أي: خلقكم وبثكم فيها بالتناسل، {وإليه تُحشرون} أي: تجمعون يوم القيامة بعد تفرقكم، فيجازيكم على إحسانكم وإساءتكم.
{وهو الذي يُحيي ويميت}، من غير أن يشاركه في ذلك أحد ولا شيء من الأشياء، {وله اختلافُ الليل والنهار} أي: المؤثر في اختلافهما، {أفلا تعقلون} فتعرفون بالنظر والتأمل أن الكل منا، وأن قدرتنا تعم جميع الممكنات، التي من جملتها البعث والحساب، وقُرئ {يعقلون}؛ بالغيب، على الالتفات؛ لحكاية سوء حال المخاطبين، {بل قالوا} عطف على مضمر يقتضيه المقام، أي: فلم يعقلوا {بل قالوا مثلَ ما قال الأولون} أي: آباؤهم ومن دان دينهم، {قالوا أئذا مِتْنا وكنا تراباً وعظاماً أئنا لمبعوثون}، هو تفسير لما أبهم قبله، أي: قالوا: أُنبعث بعد هذه الحالة، {لقد وُعِدْنَا نحن وآباؤنا هذا} البعث {من قبل}: متعلق بالفعل من حيث إسناده إلى آبائهم لا إليهم، أي: وُعِدَ هذا آباؤنا من قبلُ، أو حال من آبائنا، أي: كائنين من قبل، {إنْ هذا} أي: ما هذا {إلا أساطير الأولين} أي: أكاذيبهم التي سطروها، وهي جمع أسطورة كأُحدوثة وأُعجوبة، أو جمع أسطار، جمع سطر، فيكون جمع الجمع. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ذكر في الآية خمس نِعَم، يجب على العبد شكر كل واحدة منها، فشُكْر نعمة السمع: أن تسمع به ما ينفع، وتكفه عما لا ينفع، وإذا سمعت خيراً أفشيته، وإذا سمعت شراً دفنته. وشكر نعمة البصر: أن تنظر به في ملكوت السموات والأرض وما بينهما، فتعرف عظمة الصانع، أو تشاهده وتوحده فيها. وشكر نعمة القلوب: أن تعرف بها علام الغيوب، وتُفرده بالوجود في كل مرغوب ومرهوب. وشكر نعمة الإيجاد: أن تكون له عبداً في كل حال. وشكر نعمة الإعادة: أن تتأهب للقائه في كل لحظة وساعة. {وهو الذي يحيي ويميت}؛ يحيي قلوباً بالمعرفة بعد الجهل، ويميت قوباً بالغفلة والجهل بعد العلم واليقظة، وذلك بالسلب بعد العطاء والعياذ بالله. وله اختلاف ليل القبض ونهار البسط على العبد، ثم يُخرجه عنهما؛ ليكون مع الله لا مع شيء سواه. وبالله التوفيق.


يقول الحق جل جلاله: {قل} يا محمد لمن أنكر البعث: {لِمن الأرضُ ومن فيها} من المخلوقات؛ عاقلاً أو غيره، أي: من أوجدها، ودبر أمرها، {إن كنتم تعلمون} شيئاً؟ والجواب محذوف، أي: فأخبروني؛ فإن ذلك كاف في الجواب، {سيقولون لله}؛ لأنهم مُقرُّون بأنه الخالق، فإن أقروا بذلك {فقل أفلا تذكرون} فتعلمون أنَّ من قدر على خلق السموات والأرض وما فيهن، كيف لا يقدر على إعادة الخلق بعد عدومها؟ فإن الإعادة أهون من البدء. {قل من ربُّ السموات السبع وربُّ العرش العظيم}، أعيد الرب؛ تنويهاً لشأن العرش، ورفعاً لمحله؛ لئلا يكون تبعاً للسموات والأرض، وجوداً وذكراً، ولقد روعي في الأمر بالسؤال الترقي من الأدنى إلى الأعلى، فإن سألتهم {سيقولون لله} أي: هي لله، كقولك: مَن رب هذا الدار؟ فتقول: هي لفلان، وقال الشاعر:
إذَا قِيل مَن رَبُّ الْمَزالِفِ والْقِرَى *** ورَبُّ الْجِياد الجُرْدِ قيل لخَالِدِ
وقال الأخَفش: اللام زائدة، أي: هو الله، وبعدمه قرأ أهل البصرة، فيه وفيما بعده، واتفقوا على إثباته في الأول، ليطابق السؤال، فإن أجابوا بذلك {فقل أفلا تتقون} أي: أتعلمون ذلك، ولا تتقون عذابه في كفركم وجحودكم قدرته على البعث؟
{قل من بيده ملكوت كل شيء} أي: التصرف التام في كل شيء بقهره وسلطانه، فالملكوت، في أصل اللغة، مبالغة في الملك، زيدت الواو والتاء؛ للمبالغة، كالجبروت؛ مبالغةً في الجبر، وفي عرف الصوفية، الملكوت: ما بطن من أسرار المعاني القائمة بالأواني، أو نقول: ما غاب في عالم الشهادة من أسرار الذات، فحس الأواني مُلك، ومعانيها ملكوت، والجبروت: ما خرج عن دائرة الأكوان من بحر الأسرار، الفائض بأنوار الملكوت، وهذه أسماء لمسمى واحد، وهو بحر الوحدة.
ثم قال تعالى: {وهو يُجير} أي: يغيث، يقال: أجرت فلاناً على فلان: إذا أغثته منه، يعني: وهو يغيث من شاء ممن شاء، {ولا يُجار عليه}: ولا يغيث أحد عليه، أي: لا يمنع أحدٌ أحداً بالنصر عليه. {إن كنتم تعلمون} شيئاً ما، أو تعلمون ذلك، فأجيبوني؟ {سيقولون لله} أي: لله ملكوت كل شيء، وهو يُجير ولا يُجار عليه، {قلْ فأنى تُسحرون} أي: فمن أين تُخدعون وتُصرفون عن الرشد، وعن توحيد الله وطاعته؟ فإنَّ من لا يكون مسحوراً مختل العقل لا يكون كذلك، قال تعالى: {بل أتيناهم بالحق} الذي لا محيد عنه؛ من التوحيد والوعد بالبعث، {وإنهم لكاذبون} فيما قالوا من الشرك وإنكار البعث. وبالله التوفيق.
الإشارة: قل: لمن أرض النفوس، وما فيها من الأهوية والحظوظ والعلائق؟ سيقولون: هي لله يتصرف فيها كيف يشاء، فتارة يُملِّكها لعبده، فتكون تحت قهره وسلطانه، فيكون حراً من رق الأشياء، وتارة يُملّكه لها بعدله، فيكون تحت قهرها وسلطانها، تتصرف فيه كيف تشاء، ويكون مملوكاً لها، ينخرط في سلك من اتخذ إلهه هواه، قل: من رب سماوات الأرواح وعرش الأسرار والأنوار، وهو القلب الذي هو بيت الرب، قل: سيقولون: لله، يظهرها متى شاء، ويوصلها إلى أصلها كيف شاء، قل: من بيده ملكوت كل شيء، فيتصرف في النفوس والأرواح؛ بالتقريب والتبعيد، وهو يُجير مِن الحظوظ والأهوية مَن يشاء، ويسلطها على مَن يشاء، ولا يُجار عليه، لا يمينع من قهره أحد، فأنَّى تسحرون.
قال القشيري: أولاً قال: {أفلا تذكرون}، ثم قال بعده: {أفلا تتقون}؛ قدَّمَ التذكرَ على التقوى؛ لأن بتذكيرهم يَصلُون إلى المعرفة، وبعد أن عرفوه، علموا أنه يجب عليهم اتقاءُ مخالفته، ثم بعد ذلك قال: {فأنى تُسْحَرون}؟ أي: بعد وضوح الحجة، أيُّ شَكٍّ بَقِيَ حتى تَنْسِبُوه إلى السِّحر؟. اهـ.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7